القيصرية في ولادة التجربة المسرحية الكردية
فرقة المسرح
أحمد اسماعيل اسماعيل
سوس وسائس وسياسة:
إذا كانت الحقيقة هي أن لا شيء في الوجود يمكن عزله عن الفن، بدءاً بخلق الوجود نفسه وتكوينه والطبيعة ومجالات الحياة كلها بلا استثناء، الدين والأدب والتجارة وصنع المواد المادية والمشي والكلام وتشييع الموتى.. إلخ. فلا عجب إن أصاب الخلل الحياة حين يحل فيها غير الفن: الدين مثلاً، أو العسكرة، أو الأدلجة، كما هو الحال في مجتمعاتنا التي يسود الدين فيها تارة والسياسة تارة أخرى، أو حين يتحولان إلى وجهان لعملة واحدة ولعل ذلك من أولى علامات بؤس المجتمع، إذ يتم اختزالهما في مقولات وأدعية، تحزبات وطوائف، أيديولوجيات ومذاهب دينية.
من المعروف أن فايروس السياسة كان قد تسلل إلى الفن والمسرح العربي السوري في مرحلة تاريخية مضت، كما في المجالات الحياتية كلها، فأفقده خاصيته بل ماهيته، ليصبح فناً أيديولوجيا دعائياً، أو فناً للفن، وهذا ما حدث لفن المسرح، إذ أنه، وفي غالبية البلاد العربية، في فترة الستينيات وما بعدها، حولت السياسة المسرح الذي تسللت إلى داخله إلى صخرة، والمسرحي إلى سيزيف، أما الجبل فكان الصالة والجمهور..
فكان من الطبيعي أن ينكسر ظهر المسرحي وتتصدع الصالة، فالسياسة العربية أثبتت على الدوام أنها من القوة، بل من الفساد بمكان؛ بحيث تتفتت عليها حتى الأوطان، وليس المسارح والجمهور فقط.
قد يطول شرح موجبات هذا القول ودوافعه في حديث عن التجربة الكردية في المسرح، غير أن معرفة ذلك قد يساهم في تقريب مأساة التجربة الكردية لوعي المتابع العربي، إذ كانت السياسة في المجال الكردي، وهي هنا متداخلة مع المجال السياسي العربي وضحية لها، فسيزيف الكردي كرر هو الآخر حمل الصخرة نفسها ووضعها في المكان نفسه الذي وضعها سيزيف العربي. بل أكثر من ذلك، إذا علمنا أن السياسة لدى الكرد حاضرة وسط الشرائح الاجتماعية كلها، الفقيرة والميسورة، الواعية والجاهلة، الراشدين والمراهقين، بل حتى في حديث العشاق، إنها العلقم الذي يتناوله الكردي في الفطام ويداوم على لوكه والتلمظ به حتى الممات.
قد يطول شرح ذلك للآخر غير الكردي في دراسات طويلة، أكاديمية وغير اكاديمية، ليس هاهنا مجال الحديث عنها، غير أن اغفالها أثناء الحديث عن التجربة المسرحية الكردية في هذه البقعة من أرض الكرد سيكون ناقصاً وضبابياً، لذلك سألجأ في هذه العجالة إلى الحديث عن سيرة التجربة الكردية السورية في مجال المسرح بما يشبه اللقطات العامة في السيناريو.
فرق وأحزاب:
ليس أدل من ارتهان التجربة الكردية في المسرح للسياسة أكثر من ولادتها في سرير الأحزاب وأحضانها، إذ تكاد الجماعات المسرحية المنضوية ضمن الفرق الفولكلورية، والتي ظهرت دفعة واحدة تقريباً في نهايات السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الفائت، قد خرجت من معاطف الأحزاب، وتحت يافطة الرعاية لها، والتي انقلبت بسرعة لدى غالبية الأحزاب، خلا استثناءات قليلة جداً، إلى وصاية. ليست وصاية سياسية وحسب، بل وحزبية.
قد تكون فرقة أزادي الفولكلورية هي السباقة في الظهور في الوسط الكردي، والتي تشكلت في مدينة دمشق من قبل شباب من كردها، وذلك سنة 1969، وكان للمسرح فيها القسم الخاص به، قدمت هذه الفرقة في تلك الفترة فقرات ونمراً ومشاهد مسرحية في منتصف السبعينيات، وكان الحزب الديمقراطي الكردي، البارتي. وقبل أن ينقسم على نفسه إلى أحزاب عديدة، راعي هذه الفرقة وحوذيها. وفي تلك الأثناء ظهرت فرقة كاوا والتي كانت بدورها تابعة لحزب الاتحاد الشعبي الكردي في دمشق وقدمت بعض العروض القصيرة والاسكتشات.
وفي الجزيرة كان لفرقة خلات قصب السبق في ذلك، إذ تأسست سنة 1978، وقدمت عروضها المسرحية بعد التأسيس بثلاث سنوات بمسرحية شعبية تحمل عنوان جتو. ولقد كانت هذه الفرقة أيضاً كانت تابعة لحزب الاتحاد الشعبي الكردي، وكان للمسرح فيها القسم الخاص به، كما كان للرقص القسم الخاص به، وكذلك للموسيقى والغناء، وكل قسم فيه ينقسم إلى فئتين أو حلقتين: فئة الأطفال، وفئة الكبار.
الامر الذي يمكن تعميمه تنظيمياً من ناحية الهيكلية والسياسة على جميع الفرق الفولكلورية التي ظهرت في التاريخ نفسه وما تلاه، ومنها فرقة خاني التي كانت تابعة لحزب اليسار الكردي، وفرقة نارين التابعة لحزب البارتي الكردي (الديمقراطي الكردستاني-سوريا). وفرقة ميديا لحزب الديمقراطي الكردي “الموحد”، وحلبجه وآشتي وكذلك فرقة فولكان لأنصار حزب العمال الكردستاني pkk في سوريا..، ونوروز للحزب التقدمي الكردي، وفرقة رابرين التابعة لحزب تيار المستقبل الكردي .. وفرقة شانو المستقلة.. وكذلك كان حال بقية الفرق في عموم المناطق الكردية: ديرك وكوباني وعفرين مثل فرقة جين وأنكيزك وفرقة آشتي وفرقة زوزان وفرقة آكري وغيرها، التي ظهرت بعد حوالي عقد من الزمن من تاريخ ظهور الفرق في الجزيرة السورية.
وعلى الرغم من التفاوت البيّن في المستويات الفنية بين الفرق جميعها من نواح عديدة، إلا أن علاقتها مع الأحزاب على درجة واحدة من المتانة، وذلك رغم اختلاف درجات العلاقة بين فرقة وأخرى، وتتجلى هيمنة الأحزاب على الفرق الفلكلورية من خلال جملة من أساليب وطرائق التعامل، أغلبها غير موضوعي، مما انعكس سلباً على بنية هذه الفرق ومستوياتها الفنية.
فعل السلطة ورد فعل الفرق المسرحية:
لم تغفل السلطات الشوفينية المتعاقبة في سوريا يوماً عن محاربة كل ما يمت للكرد أرضاً وشعباً، وكل ما يدعم ذلك فنياً وسياسياً، فقد حاربت اللغة الكردية شفاهة وكتابة، والتاريخ الكردي حاضراً وماضياً، والثقافة والفن الكرديين، وكل ما يمت للهوية الكردية وحاملها.
ولقد وجدت هذه السلطة في ظهور الفرق الكردية تحدياً خطيراً لسياساتها الشوفينية، رغم تواضع المستوى الفني للفرق وحزبيتها.
وكالعادة، كان عنصر المخابرات دائم الحضور في أغلب العروض المسرحية، تماماً مثل العروض العربية، ولكنه كان في الحالة الكردية ينظر إلى هذا المسرح بعيون ميدوزا، عين على العرض وعين على الجمهور، يدون أسماء من على الخشبة من ممثلين، وأسماء من يعرفهم من الجمهور. لتبدأ بعدها سلسلة من الملاحقات والعقوبات من سجن وفصل من عمل وضغوط نفسية عديدة. فكان رد فعل الفرق انفعالياً في كثير من الأحيان، وإن كان في وقتها بطولياً، لتنتهج سياسة مقاومة القهر عبر الفن، في صيغة تحد وإصرار على المتابعة لا يشفعها، للأسف، فعل فني مواز. لا في الصيغة الفنية التي بقيت تقليدية حتى أمد قريب جداً، ولا في المواضيع، التي ظلت المظلومية ومقاومة الظلم ديدنها.
فاصلة:
كنت في سنة 2006، ضمن وفد من المثقفين الكرد الذي زار القصر الجمهوري بناء على دعوة منه لمقابلة بشار الأسد، ولكن الرجل اعتذر عن مقابلة الوفد ونابت عنه الدكتورة نجاح العطار، رفقة الدكتور أحمد برقاوي، كان على كل عضو في الوفد أن يتحدث في موضوع معين ومحدد له مسبقاً، وكان موضوعي عن الفن الكردي. رويت للسيدة العطار ضمن حديثي عن حال المسرح والفن الكردي عامة سياسة القمع الممارسة بحقه، حادثة اعتقال شاب كردي في يوم احتفال فرقة ميديا الفولكلورية بيوم المرآة العالمي، والمصادف يوم الثامن من آذار سنة 2004، إذ فوجئ الحفل النسائي والذي يكاد يخلو من عنصر الرجال إلا من بضعة شباب حضروا للخدمة والحراسة. بعدة سيارات لقوات مسلحة تقتحم الحفل وتحاصره، ثم تستولي على الأجهزة الصوتية. ليتقدم أحد أعضاء الفرقة بالشرح للدورية بأن الحفل نسائي صرف، والمناسبة معروفة، فكان أن طلب قائد الدورية من الشاب تصريحاً بالحفل، وهي دعوة مثيرة للسخرية واستفزازية، إذ لا يمكن الحصول عليها طالما الفرقة كردية، وأغرى الشاب بالموافقة حين يتقدم لفرع الأمن بطلب ترخيص، وفعل الشاب ذلك، وكانت النتيجة اعتقال الشاب في سجن الفرع مدة سبعة عشر يوماً، خرج بعدها في حالة يرثى لها. حين رويت لها ذلك. مثالاً على ظلم الأمن وتدخله وعدم الثقة بالسلطات، لاحظوا أن الحادث وقع قبل أيام من حادثة الملعب، شرارة الانتفاضة، بما يؤكد أن الحادثة كانت مفتعلة ومبيت لها، لم ترد عليّ سوى بجملة واحدة. “إن الأمن يتدخل حتى في العروض المسرحية العربية، هنا في دمشق وفي باقي المحافظات”. هذا كان رد ساكنة القصر الجمهوري. ونائبة سيده، وللأمانة قالتها وهي مطرقة الرأس. فصمت بعد كلمة شكر قلتها بنبرة خاصة، وأنا أضرب أخماس بأسداس، حتى خشيت أن يتم اعتقال العطار نفسها من قبل المخابرات.
عربة المسرح وأحصنة السياسة والتحزب:
كان من الطبيعي أن يعثر المتابع لتاريخ المسرح السوري على تقاطعات كثيرة بين التجربتين المسرحيتين في هذا البلد: العربية والكردية. وأولها تاريخ انطلاق المسرح وولادته، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل كثيرة تجعل هذا التاريخ متقارباً، لا متماثلاً وموحداً أشبه ما يكون بالتوأم، فلكل منطقة ظروفها، فقامشلي شبه الريفية ليست مثل دمشق العاصمة، وديمغرافيتها ليست مثل حمص وحلب، والثقافة العربية وتاريخ الكتابة بها وتعدد الحقول وغناها عربياً.. مختلف عما هو الحال كردياً، فثمة فروق تاريخية وحضارية غير هينة، غير أن عدم التقارب بين المسرحين، أو لنقل التجربتين، وغياب أية تقاطعات، لا يعود للظروف الحضارية، رغم أهميتها الكبيرة، بل لسبب آخر مختلف تماماً. سياسي في المقام الأول.
يُعد المسرح الكردي في سوريا حديث الولادة مقارنة بالمسرح العربي فيها، فإذا كان العرض المسرحي لأبي خليل القباني سنة1871 ، والذي حمل عنوان “الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح“، فإن العروض الأولى لفرقة آزادي التي تأسست في دمشق بجهود من كرد العاصمة سنة 1969، كانت في منتصف السبعينات.
ولعل القرن الذي يفصل بين التجربتين أبعد من أن يكون مجرد زمن، فكل يوم من حياة الكرد في سوريا أطول من قرن، وذلك بفعل سياسة السلطات الشوفينية، لا القدر والمرحلة التاريخية أو المستوى الحضاري.
نعلم جميعاً أن الرجعية العربية، الشامية، قامت بإحراق مسرح القباني، مما دفع بالرجل إلى اللجوء إلى مصر، بهدف إكمال مشروعه، ثم جاء بعده من تابع المشوار، والسؤال هنا: ماذا لو أحرقت السلطات الحاكمة مسرح القباني في مصر أيضاً؟ أو مسرح من جاء بعده مثل اسكندر فرح وفرقة ناديا أو “تياترو ناديا” التي كانت تديره ناديا العريس. ومن ثم عبد الوهاب أبو السعود وغيرهم. ماذا لو أحرقت الرجعية أو سلطات الاحتلال أعمال هؤلاء المبدعين وعطلت نشاطاتهم ومنعت عروضهم في كل مرة يتم فيها تقديم عرض مسرحي، هل كنا سنشهد مسرحاً سورياً له بصمات كثيرة فناً أو عرضاً مسرحياً وأدباً؟
قد تكون الإجابة على هذا الاستفسار توضيحاً لسبب تخلف التجربة الكردية وتواضع مستواها الفني. رغم العوامل الذاتية المعيقة للتجربة. وهي ليست قليلة.
تاريخياً، لا يمكننا الجزم بوجود رائد لهذه التجربة، مثل القباني، سورياً، ومارون النقاش، عربياً أو حتى ثسبيس thespis اغريقياً وعالمياً. فمن ناحية الأسبقية في تقديم العروض المسرحية يمكن أن نؤكد حسب بعض أعضاء فرقة آزادي أن لهذه الفرقة قصب السبق في الوجود، إذ أنها قدمت عروضها في منتصف السبعينيات من القرن الفائت بغض النظر عن مستواها الفني، وتوافر شروط العرض السوي فيها.
وثمة عروض أخرى قدمت في أماكن مختلفة في غير مكان في ذلك الوقت، ومنها في مدينة الحسكة، لتبدأ التجربة المسرحية بشكل أكثر زخماً في قامشلي مع بداية الثمانينات مع فرقة خلات الفولكلورية، وفرقة خاني وفرقة نارين وغيرها من الفرق التي انتشرت في هذا العقد بالذات، بل وفي أغلب المدن الكردية، وفي أزمان متقاربة جداً، تحول خلالها تبني الأحزاب لفرق مسرحية أو دعمها ظاهرة واسعة الانتشار، وأشبه بالموضة، الأمر الذي يحتاج لبحث في أسباب وخلفيات هذا الأمر..
تنوعت عروض الفرق بين نمر مسرحية واسكتشات ومشاهد إيمائية وعروض مسرحية طويلة، مكتملة الشروط، لتلجأ الفرق بعدها إلى كتابة نصوصها في صيغ فنية وأشكال غير حداثية، تناولت من خلالها أحداثاً واقعية وحكايات تراثية كردية، وذلك في ظل غياب شبه تام لأدب مسرحي كردي، أو دراماتورج يُحسن إعداد النص المترجم. وكان الأدب المسرحي العربي هو الملجأ الأول الذي بدأ الفنان الكردي في هذه الفرق يترجمه إلى لغته، وكان من الطبيعي أن يجد بغيته في نصوص سعد الله ونوس وممدوح عدوان ويوسف العاني ووليد اخلاصي وتوفيق الحكيم التي تتحدث عن العدالة والظلم والثورة، وكذا في نصوص أخرى لكتاب أجانب مثل عزيز نيسين ويوربيدس وتسوكماير وبرتولد بريخت إضاقة لكتاب كرد أمثال: موسى عنتر وأحمد اسماعيل إسماعيل وغيرهما رغم ندرتهم.
ضمن هذه الظروف القاهرة: السياسية والمعاشية لأعضاء الفرق، وكذلك غياب الكوادر المسرحية في كل مفردات العمل المسرحي من: تأليف أو دراماتورج وتمثيل وإخراج وسينوغراف وموسيقا.. إلخ. تشكلت الفرق وقدمت عروضها المسرحية.
حين بدأت الفرق المسرحية عروضها الأولى لم يكن أمامها في البدء مناسبة تجتمع فيها بالجمهور سوى يوم نوروز، وهذا اليوم كما هو معروف، هو المناسبة الكردية الوحيدة التي يخرج فيها الكرد بمختلف الشرائح والمشارب السياسية وغير السياسية، إلى البراري للاحتفال به، والذي يستحضرون فيه الفعل الثوري الأول على الظلم الذي قام به البطل كاوا الحداد الذي ثار على ظلم الطاغية أزدهاك، وبغض النظر عن حقيقة هذه الملحمة وطبيعتها، أسطورية كانت أم واقعية، كردية كانت: حدثاً واقعياً أو حكاية وأسطورة، أم غير كردية، فقد وجد الكردي نفسه يتبناها منذ زمن بعيد، فكاوا هو بطل كل كردي وازدهاك عدوه، في كل زمان كردي ومكان، ولا عجب أن تكون هذه الملحمة هي المادة الأولى التي تناولتها الفرق الكردية في أولى عروضها، وبالصيغة الوحيدة التي وصلتها، دون تجديد أو إبداع وتجاوز ملموس، أو حتى قراءة الدلالات والرموز غير القومية، فتم تكرار تقديم كاوا الحداد الذي انقذ الشعب بقطع رأس أزدهاك الطاغية وإنقاذ رؤوس الشباب الكرد الذين كانت الطعام الشافي لثعبانين ظهرا على كتفي الطاغية. المرة تلو الألف مرة.
ولم يقتصر الأمر على حكاية كاوا التي ماتزال تُقدم بحرفيّتها، بل أن النصوص المترجمة إلى الكردية والمؤلفة من قبل أحد أعضاء الفرقة عادة، بقيت أسيرة هذه الصيغة الثنائية: ظالم ومظلوم، ثائر ومستبد. رغم وجود بعض عروض مسرحية كسرت هذه النمطية بتقديم عروض تتحدث عن معاناة المرأة. وعن سلبيات الداخل الكردي أو كوميديا اجتماعية. ومواضيع أبعد مدى وأعمق فكرة، ولا تسعفني الذاكرة الآن في ذكر أسماء هذه العروض، وسأخصص لذلك بحث آخر قريباً.
لقد كانت عدة الفنان في هذه العروض هي الموهبة والرغبة والتحدي للنظام. وطبعاً تقديم ما هو كردي لجمهور كردي، وذلك على حساب أدواته الفنية: الصوتية والانفعالية والحركية. وبهذه العدة الإسعافية أستطاع الفنان الكردي الذي اعتلى الخشبة أن يقدم عروضاً مسرحية أمتعت الجمهور وجعلت منه متابعاً لكل ما يقدم لها على خشبة غير ثابتة، وساحة لا يكتمل فيها نهوض المشهد بكامل شروطه، بسبب تسلل رجل المخابرات إليها، فايروس كل عرض مسرحي.
وبالعودة إلى الفنان المسرحي، الممثل والمخرج، يلاحظ أن الأرسطية تكاد أن تكون مدرسته الوحيدة، والعلبة الإيطالية التي كان يحملها معه إلى البراري وفي الأحواش، خياره الفني الوحيد، وهو الثائر ضد كل أشكال القمع. ولقد كان الصوت هو العنصر رقم واحد لديه، وآلته التي ارتكز عليها، إضافة إلى الذاكرة الانفعالية، خزان الكرد الذي لا ينفد، والذي يغرف الفنان منه ما شاء له ذلك، دونما حاجة إلى أسلوب فني. أو تقنية ودراية، ودائماً ثمة استثناءات في هذا الكلام العام، وكل ذلك كان على حساب لغة الجسد غير الإبداعية في غالبية المسرحيات حتى بداية الألفية الثالثة، لتظهر مواهب فنية امتلكت أدواتها بشكل أفضل، وتقدم عروضاً مسرحية تتوفر فيها شروط العمل المسرحي من نص جيد وإخراج وتمثيل. في كل من قامشلي والحسكة وعفرين.
المهرجانات المسرحية
حتى حين تتحول المهرجانات المسرحية إلى مناسبة أو ظاهرة للاستعراض، كما في الأسواق، فإن فائدتها عامة للمستهلك أو المتلقي، وللمنتج أو صناع العرض. تماماً مثل مبدأ العرض الذي يزيد على الطلب في دنيا الأسواق، وللمسرحيين الكرد محاولات لإحياء هذه المناسبة بجدية في أكثر من مرة، رغم الظروف القاهرة، الأمنية بالدرجة الأولى، ولقد كانت التجربة الأولى سنة 1994، في منطقة النبي هوري في عفرين التي اشتركت فيها الكثير من الفرق الكردية من أنحاء سوريا، بلغ عددها 15فرقة من حلب والجزيرة وعفرين، غير أن الظروف حالت دون تقديم غالبية الفرق المشاركة لعروضها، لتقتصر المشاركة الفعلية على بضع فرق قدمت عروضها في المنطقة المذكورة أمام لجنة تحكيم مؤلفة من خمسة أعضاء، وجمهور غفير، نذكر من هذه الفرق: أهريمن وميديا وحلبجه من الجزيرة. وزوزان ونشتمان من عفرين. والجدير بالذكر أن فرقة أهريمن التي قدمت عرض هيكابي ليوربيدس من إخراج الفنان عادل إسماعيل حصدت أغلب جوائز المهرجان: جائزة العرض واختيار النص والتمثيل. ليقام بعدها حفل اختتام المهرجان في صيف العام نفسه في قرية خالد كلو بالجزيرة.
لا شك في أن انجازاً كهذا في بلد بوليسي يمارس سياسة المنع والقهر ضد شعبه عامة والكرد خاصة يستحق أن يسمى انتصاراً. أضف إلى ذلك تجاوز الفرق المسرحية قيدها الحزبي الكردي الذي أعاق أي تواصل فعلي كردي- كردي، لينال هذا الفن شرف تحقيق حلم توحيد الفرقاء المختلفين، في صيغة توحيد العيون والقلوب كلها بالنظر إلى المشهد ذاته.
الأمر الذي أغرى تلك الفرق بتكرار التجربة في السنة التالية، وكان لها ما أرادت سنة 1995، وبدأت الفرق المسرحية في الجزيرة تقدم عروضها أمام الجمهور ولجنة تحكيم ضمت كل من الكاتب المسرحي أحمد اسماعيل إسماعيل والمخرج أنور محمد والمخرج عدنان عبد الجليل. فقدمت كل من فرقة خلات “مسرحية موت الحجل” لأحمد إسماعيل وإخراج عدنان عبد الجليل و“ميديا” مسرحية من هناك لويليم سارويان وإخراج أنور محمد. و”الحمامة المستقلة “مسرحية المسابقة عن نص لعزيز نيسين إخراج كاوا شيخي “ونارين” مسرحية ليالي السكارى تأليف وإخراج رفعت حاجي”.. غير أن منغصات كثيرة حالت دون تحقيق المهرجان لهدفه منها ما هو مادي وسياسي وحتى حزبي: إذ قامت ثلة من الشباب التابع لطرف سياسي كردي، بالهجوم على جمهور عرض مسرحي في منطقة جمعاية بالقامشلي ولجأت إلى استخدام السلاح وإطلاق النار. دون تدخل مباشر من قبل الأجهزة الأمنية!!
فكان من الطبيعي أن تكف الفرق عن مساعيها من أجل مهرجان ثالث، واقتصر نشاطها على تقديم العروض بشكل مستقل، في الأحواش وأطراف المدن والبراري، وفي مناسبات كردية مثل يوم الصحافة ويوم نوروز وكذلك في يوم المرأة.. إلى أن قامت الثورة السورية سنة2011 ، التي ذرت الرماد الأسود عن الجمر المتقد تحته، وغيرت المشهد الساكن إلى مشاهد حية، وحولت الأرض السورية إلى مسرح، الجميع فيه يمثل دوره من أجل هدف عام هو الكرامة والحرية، حتى اقتحم هذا المسرح ممثلون من خارجه، ليمثلوا شخصيات لا تمت للوطنية السورية، ولا للوجع السوري، فانحرف العرض عن مساره، وانشطر المسرح الواحد إلى مسارح.
وفي ظل الإدارة الذاتية لمنطقة شمال شرق سوريا نشأت فرق مسرحية جديدة، وعادت المهرجانات للظهور مرة أخرى، وكان مهرجان يكتا الذي يقام سنوياً في مدينة قامشلي واحداً منها، لتكون دورته الأولى في يوم المسرح العالمي من كل سنة، وكانت الدورة الأولى لهذا المهرجان في سنة 2015، قدمت فيه عروض كثيرة. ومن مختلف المناطق، يمكن أن نذكر من هذه العروض:
– فرقة عامودا عرض “Îdî bese – كفى” تأليف: نواف بشير- إخراج حسن رمو.
– فرقة مدينة الشباب عرض “Nasname – الهوية” معدة عن نص النقيب كوبينك للكاتب كارل تسوكماير وإخراج فواز محمود
– فرقة شانو أوبريت “Keleha kobanê rgu – قلعة كوباني” تأليف وإخراج عبدالرحمن ابراهيم
– فرقة (آفا مزن) ديريك عرض: “شورش أو سرخوش،الثورة” الكاتب ابراهيم فقة ومن إخراج حسين صبري
– فرقة تولهلدان عرض “الخبز المسموم” تأليف: فاسلين خانتشوف إخراج محمد رسول
– فرقة روسلين عرض “ثورة الموتى” تأليف أروين شو إخراج محمد رسول
– فرقة Jiyana Şano عرض ( خون- Xewin، الدم) توليف واخراج عبدالجابر حبيب
– مسرحية “أوكسجين” توليفة: محمد أشرف – إخراج أنور محمد
– عرض “Çirîsk – الضوء” عن نص النافذة للكاتب إيرينيوش إيريدينسكي- اعداد وإخراج عمران يوسف
غير أن مهرجان آخر كان قد سبق يكتا بالظهور في مدينة عفرين، أطلق عليه اسم ميتان، تيمنا بمملكة ميتاني التي نشأت في القرن الخامس عشر وبداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد والتي تعد حلقة في تاريخ الكرد. وكانت بداية هذا المهرجان في سنة2014 ، من قبل مجموعة من الشباب العامل في المسرح، واللافت للانتباه أن الدورة الأولى، ومن ثم الدورات اللاحقة، كانت تبدأ بكرنفال يجوب شوارع المدينة، يتقدمه المشاركون بأزيائهم المسرحية، ليبدأ افتتاح المهرجان في اليوم الثاني بأغنية ميتان والتي تغنى بثلاث لغات الكردية والعربية والإنكليزية، وذلك تحت شعار إننا نزرع الحياة.
وفي هذه الدورة، الأولى، تم عرض مسرحيات كثيرة منها مسرحية للأطفال الحقل المنيع لأحمد اسماعيل إسماعيل وإخراج هيفان بوزو ومسرحية البرميل تأليف وإخراج رابرين كلكاوي وعدنان مصطفى. ومسرحية عفوا مموزين لأحمد اسماعيل إسماعيل وإخراج محي الدين أرسلان. قلعة المقاومة نص عدنان مسلم وإخراج أيبش أسو. مسرحية الدب لأنطون تشيخوف وإخراج محي الدين أرسلان. مسرحية لكنه شرعي نص محمود جقماقي إخراج جوان قاقو. مسرحية زفاف نص محي الدين أرسلان وإخراج أفستا علي. ونص عيون الزيتون نص وإخراج أسامة محمد.
واستمر هذا المرجان ملتزماً بموعد انطلاقته في كل سنة ليقام الموسم الثاني سنة 2015، ثم الموسم الثالث سنة 2017، ليضطر بعدها إلى التوقف مدة ثلاث سنوات بعد أن تم احتلال عفرين من قبل تركيا ومرتزقتها سنة 2018.
ليعاد إحياء المهرجان من جديد سنة 2020، في منطقة الشهبا، في مسرح خارج المدينة، وتحت خيام النزوح، وذلك في تجربة كردية وسورية مميزة اختلط فيها الألم والغضب بالإبداع والتصميم. وقدمت في هذا المهرجان مسرحيات كثيرة. لمخرجين شباب منهم محي الدين أرسلان المؤسس للمهرجان ومحوره الفاعل. وسلام إيبو وميرزان بكر وهيوا بطال ولوران حسن وزينب حسن، وكانت النصوص لكتاب كرد وسوريين ومحليين من عفرين منهم ممدوح عدوان الذي قدمت له مسرحية طريف الحادي. ومسرحية الطائر يسجن الغرفة لفرحان بلبل ومسرحية درويشه عفدي عن ملحمة كردية قديمة لريزان بكر. وسبع خيم غنائية لجوان حسنوثلاثةنصوص مسرحية لأحمد اسماعيل إسماعيل هي أهلا جحا، مجرد مزاح، ومونودراما نسرين.
قبل أن أنتقل إلى بقعة عامة أخرى أسمح لنفسي بوضع علامة استفهام وتعجب كبيرين أمام غياب النقد والبحث المسرحيين حتى اليوم، خلا كتاب واحد جمع مقالات كانت بالأساس موجهة لصناع العرض المسرحي ومكتوبة بلغة غير بحثية وأكاديمية صدرت سنة 1997، وأعني بها كتاب “مسرحنا المأمول” لأحمد اسماعيل إسماعيل.
ولهذا الموضوع تفاصيل كثيرة تحتاج إلى بحث عميق، لا يقتصر على البقاء في دائرة المظلومية وسياسة القهر القومي التي مورست بحق الكرد من قبل السلطات الشوفينية. بل ثمة عوامل ذاتية كثيرة كان لها دورها المحبط والمعيق.
الوحش ذو الرؤوس الألف:
يؤكد غير مسرحي على دور الجمهور المركزي في العملية المسرحية، ويكاد جميع من تناول موضوع الجمهور المسرحي أن يتفق، من يصفه بالوحش ومن يطلق عليه صفة السيد المحترم، على أن الجمهور هو الذي يكمل دائرة العرض، فهو شريك الفنان في الظاهرة المسرحية، بل سيده، وبحضوره يبدأ العرض، ولا عرض بلا جمهور، وعلى المسرحي أن يحب جمهوره ويحترمه، وهذا شرط، مهما كان مستوى هذا الجمهور المادي والثقافي.
ولقد سعت تجارب مسرحية كثيرة إلى تطبيق هذا الشرط وتم ابداع طرائق ووسائل فنية وتقنية لتحقيق ذلك، على مستوى النص والعرض، بل على مستوى مكان العرض وطريقة التعامل مع المتلقي لجعله يتفاعل مع ما يشاهده. في الوسط الغربي والعربي أيضاً، وما ظهور البيانات المسرحية العربية والتجارب والنداءات والتقنيات الفنية سوى محاولة للوصول إلى قلب الجمهور وعقله. وفي الغرب ثمة تجارب سابقة كثيرة منها تجربة ميرخولد وبريخت ومسرح المقهورين وغيرهم.
ورغم ذلك نجد أن الجمهور المسرحي لا يُقبل على ما يقدم له من عروض، وإذا كانت الأسباب عديدة وخاصة في الساحة المسرحية العربية وفي مقدمتها حداثة هذا الفن في حياة الناس وعدم تمكنه من التحول إلى ثقافة وعادة اجتماعية، لجملة من الأسباب الحضارية والسياسية، تتصدرها سياسة المنع والحظر والتعتيم، بل القمع، بحق الأصوات المطالبة بالتغيير، إضافة إلى قبول غالبية الفنانين التدجين في مؤسسات السلطات وتقديم مالا يتعارض بقوة مع سياسة الحاكم. رغم تقدم مستوى العروض المسرحية وتألقها وظهور تجارب هامة في الساحة العربية استطاعت الارتقاء إلى مصاف العروض المسرحية في الساحة الغربية، في مجالات النص والعرض والسينوغراف والتمثيل.
لعل هذه المقدمة تشفع لي حين أصف الجمهور الكردي بالأم في تعامله مع العاملين في المسرح الكردي، لا بالشريك أو بالسيد، إذ لا ندية في العلاقة، ولا محاسبة للفنانين تجعل المسرحيين يطلقون عليه صفة الوحش ذو الرؤوس الألف كما فعل الفرنسي سارسي.
لا أذكر أن مسرحياً كردياً تحدث عن موقف سلبي للجمهور، إذ لم يسبق أن تم إطلاق صفير استهجان أو سخرية بحق ممثل أو عرض مسرحي. رغم تواضع مستوى غالبية العروض، ولعل ما حدث في عرضين مسرحيين من شجار وفوضى، فرقة خلات في العنترية وفرقة نارين في جمعاية وفي زمنين متفاوتين، كان بدفع من جهات سياسية حزبية وبهدف كيدي.
لا أعتقد أن عرضاً مسرحياً في منطقتنا مهما كان مستواه الفني مميزاً وتاريخه عريقاً، يحظى بآلاف المتابعين. فيما كانت العروض المسرحية الكردية التي كانت تقدمها الفرق في العقود الثلاثة السابقة على قيام انتفاضة الشعب السوري، يتابعها الجمهور في البرية وقوفاً، أو في القرى البعيدة وهو يَقّتعدُ الأرض ملتزماً بعدم الانفعال وإطلاق العنان لأصوات التشجيع، خشية اقتحام الأجهزة الأمنية مكان العرض. ووسط اقبال جماهيري منقطع النظير. يتحول الجميع فيه إلى كتلة واحدة لها رؤوس عديدة، تتابع العرض بشغف ولهفة، وتصفق لصناعه بحماس. دون نقد أو رفض. قد يثير هذا التعامل من قبل الجمهور دهشة وعجب الكثيرين، ولكن سياسة السلطة المعادية للطرفين: الصالة والخشبة، تجيب على السؤال، وهذا ما أساء إليهما، المسرح والجمهور، فنياً وفكرياً، بقدر ما أفادهما في جوانب معينة، آنية وسياسية.
ملحوظة وقفلة:
لا شك أن التجربة تحتاج إلى وقفة وكتابة منهجية تؤرخ لها بشكل منهجي وتفصيلي، ولعل هذه الانطباعات الأولية، ومقالة سابقة تناولت فيها مسرح قامشلي ونشرت في مجلة الحياة المسرحية السورية سنة 1999، بعنوان مسرح مدينة قامشلي ذكرت فيها وبشكل أشبه إلى الإشارات، لأسباب معروفة للجميع، أسماء بعض الفرق الكردية وغير الكردية: الأشورية والأرمنية والسريانية، طبعاً والعربية. لا تفيان بالغرض، فالجهود التي عملت في المسرح الكردي قبل انتفاضة الشعب السوري كانت كبيرة، وقد لا أبالغ لو وصفتها بالملحمة، فكل تجربة كردية في المسرح والفن عموماً تستحق وقفة طويلة، وكل فنان يستحق الثناء، وذلك بغض النظر عن المستوى الفني، فولادة التجربة كانت عسيرة والنشأة قاسية.
غير أن دوام الحال يجعل من المحال تغير الأحوال.
قد يخال للبعض أن فقر المسرح الكردي ناتج عن فقر المخيلة الكردية وتاريخ الكردي وحاضرهم، ورغم تأكيد المقال على دور السلطات الحاكمة في إجهاض كل ما يمت للكرد من إبداع، فإن تاريخ الكردي غني جداً ويمكن أن يمدّ المسرحي الكردي بمواد ومواضيع ثرة، تماماً مثل تراثه الذي قد يدهش من يطلع عليه لغناه بكل ما هو إبداعي، ليس الحكايا والمواضيع والأحداث وحسب، بل الأشكال الفنية أيضاً.
ولقد كان لي شرف الاستفادة من التاريخ والتراث الكرديين في أكثر من تجربة وهذه واحدة منها.
استلهام التاريخ مسرحياً: جمهورية مهاباد نموذجاً
موجبات استلهام التاريخ الكردي مسرحياً:
لم يشهد مسرح الحياة تاريخاً مشبعاً بالدراما المأساوية والعبثية مثل التاريخ الكردي. بمجريات أحداثه ومصائر شخصياته، فالخلاص الكردي الذي يشبه غودو لما يأت بعد رغم سلسلة النضالات والحروب والتضحيات وخيبات الانتظار المستمرة منذ زمن موغل في القدم وحتى يومنا هذا.
وإذا كان الآخر قد غيب التاريخ الكردي عن عروض مسرح الحياة، الحضارية والسياسية والتاريخية والابداعية، فإن وجود المبدع الكردي متفرجاً سلبياً في صالة هذا المسرح قد سلب وعيه وهويته وساهم في استمرار تغييب تاريخه داخل الكواليس المعتمة.
ما حدث لتاريخ الكرد من تهميش وتشويه كبير وبالغ التأثير، ولكنه لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ، وذلك حين يجد من يخرجه من الكواليس ويمنحه فرصة الظهور على مسرح الحياة في كافة المجالات الفنية وغير الفنية، ولقد أثبت المسرح عبر تاريخه الطويل قدرته على المساهمة في إحياء التاريخ وإزالة ما علق به من تشويه.
وإذا كانت العناصر الدرامية التي يبحث عنها المسرحي الكردي من صراع وشخصيات درامية وأحداث ووقائع وزمان ومكان ومواضيع؛ ملقاة على قارعة طريق تاريخه بوفرة مدهشة، بدءاً بحدود دولة كردستان في مهاباد وبعدها بقليل أو كثير، وانتهاء بتراجيديا الامبراطورية الميدية وما قبلها من ممالك حورية، وما بينهما من أحداث ووقائع وسير شخصيات، فإن رحلته هذه لن تكون ميسرة في طريق لم تعبد بعد بالأرشفة والتدوين والدرس، حيث تكثر فيها الشذرات المتفرقة والمواد الخام التي أسيء استعمال الكثير منها عن قصد أو جهل. إلى درجة يختلط فيها الواقعي بالخيالي والحقيقي بالوهمي. وهو واقع حال قد يُفيد المبدع الذي يُحسن استثماره في استلهام المادة التاريخية المتماثلة مع الحاضر في صياغة فنية عالية، وذلك بخلاف المؤرخ الدارس الذي سيضاعف هذا الأمر من جهوده.
ففي التاريخ الكردي الحديث والمدون ما يفي حاضراً بغرض المبدع، رغم عدم خلوه هو الآخر من شوائب الجهل والتجهيل. حيث نجد ذلك بقوة في تاريخ الامارات التي قامت في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحياة الثورات التي عاصرتها أو تلتها، والتي أفرزت الكثير من الدلالات والعبر والدروس، يمكن للدارس والمبدع خاصة الاستفادة منها في بحثه عما يحقق الهدف الذي حدده من استلهام المادة التاريخية التي تناولها كالدور السلبي لبعض رجالات الدين والوعي الديني القاصر لدى أبناء الشعب الذي تجلى في ثورة المير محمد في رواندوز في بدايات القرن التسع عشر، من خلال إبراز الصراع العنيف الذي نشب في معسكر الثورة بين المير محمد الرافض للمفاوضات مع رشيد باشا قائد الحملة العسكرية التركية، والملا خاطي الذي كان لقوله (كل من يقاتل ضد قوات السلطان كافر وزوجته بلا شرف) وتصريح رشيد باشا (كل من يقاتل جنود السلطان إنما يثير غضب الله) أثرهما في تجريد الثوار من سلاحهم وإفشال الثورة.
كذلك يمكن أن يجد المبدع الباحث عما يجسد مقولته عن دور المثقف الكردي المتخاذل في شخصية حسن خيري النائب في البرلمان التركي إبان ثورة الشيخ سعيد، الذي كافأه نظام أتاتورك بعد انكسار الثورة على ما قدمه من مساعدات في تهدئة أهالي ديرسم بالإعدام بحجة ارتدائه الزي الكردي أثناء جلسات البرلمان. وتم تنفيذ أمر الإعدام به وبابن أخيه رغم تأكيده لرئيس المحكمة إنما كان يفعل ذلك بطلب من أتاتورك نفسه. لا شك أن هذه الشخصية وما تمثله في الظروف المشابهة التي تتكرر في حياة الكرد وغير الكرد تحتاج من المبدع الحرص على تناميها وعدم قولبتها في إطار أحادي.
وفي تجربة جمهورية كردستان التي قامت في مهاباد عام 1946، وانهارت وهي لما تزل في المهد؛ الكثير مما يمكن أن يتم مسرحته. وذلك رغم غياب المنهجية عن المصادر التاريخية القليلة التي تناولتها بسرد إخباري وصفي. بسَّط الحدث وركز على نوع واحد من الصراع على حساب صراعات أخرى، مقتصراً على جبهتين اثنتين واحدة خيرة جداً والأخرى شريرة جداً، فجاءت شخصياته نمطية أحادية الجانب، تكاد كل واحدة منها أن تكون دمية تنطق بلسان كاتبها لا بلسان حالها. ناهيك عن القراءة المتحيزة والمؤدلجة لحدث الجمهورية أو أحداثها الفاعلة من قبل مؤرخين أو دارسين لها. فمسؤولية السوفييت مثلاً في انهيار الجمهورية لدى الأمريكي إيغلتن الابن كبيرة وأساسية، فيما هي غير ذلك لدى الدكتور عبد الرحمن قاسملو، الذي اغتالته المخابرات الإيرانية في النمسا، رغم إقراره بالأخطاء الجسيمة التي أرتكبها ممثلو السوفييت في جمهوريتي كردستان وأذربيجان.
يمكن أن يقال الكثير عن أسلوب تناول المؤرخ لهذه التجربة، ولكن ما يهمنا هنا هو كيف يمكن للمبدع أن يتناولها مسرحياً.
لا شك أن تحديد الهدف العام لأي عمل أدبي أو مسرحي هو بمثابة خارطة الطريق للكاتب، فلو حدد المبدع هدفه بموقف السوفييت مثلاً، فإن ذلك سيتطلب منه التركيز على صراع يختلف عن صراع في مسرحية يكون هدفها دور العشائر الكردية في انهيار الجمهورية والتي منحها الشهيد قاسملو دوراً مركزياً، ففي المسرحية الأولى سيتم منح شخصيات مثل سكرتير الحزب الشيوعي الأذربيجاني والمتنفذ لدى السلطة السوفييتية جعفر باقروف والمستشار السياسي الروسي أسدوف مثلاً دوراً مركزياً على حساب تراجع أدوار شخصيات أخرى مثل علي بك رئيس العشائر في ذلك الوقت ورجل العشيرة المناهض زيرو بك. فيما سيكون الأمر بخلاف ذلك حين تدور المقولة حول شخصية قاضي محمد. أحداثاً وشخصيات وحوارات وصراعات. وفي هذا الاتجاه يمكننا أن نقتطع هذا المشهد من مسرحية قاضي محمد التي كتبتها لهذه الغاية فقط. والمنشورة في مجلة شانو الصادرة في أربيل، ( العدد 22 سنة 2011)، وفي كتاب مع مسرحية التاج الذهبي الموجهة للفتيان سنة 2013).
(المكان: قاعة محكمة عسكرية، يقف أمام منصة القاضي والمدعي العسكري كل من قاضي محمد وشقيقه أبو القاسم قاضي وابن عمه سيفي قاضي) بعد حوار طويل نسبياً. يسخر المدعي العام من صدري قاضي ويعتبر كلامه استرحاماً. ويصف الشعب الكردي بالهمج والغوغاء. فتحدث ضجة في المحكمة.
-سيفي قاضي: احتج.
-القاضي العسكري: صمتاً، صمتاً.
-قاضي محمد: (يغضب، يرفع كرسيه ويضرب به المدعي الغام) الكرد ليسوا غوغاء أيها الأزعر، أحفاد صلاح الدين الأيوبي ومحمود الحفيد وأحمدي خاني وملا أحمد الجزري ليسوا غوغاء. إنهم شعب عريق.
(تعلو الضجة.. لغط)
– القاضي العسكري: صمتاً صمتاً.
– المدعي العسكري: مجرم عميل.
– سيفي قاضي: مجرم من يوجه إهانة لشعب مسالم.
– القاضي العسكري: حكمت المحكمة.. صمتاً.
-عسكري: (لقاضي محمد) أصمت يا رجل وإلا ضربتك.
– قاضي محمد: لن أصمت عن إهانة توجه لشعبي.
ثم ينطق القاضي العسكري وسط هذا الهرج والمرج بقرار إعدام قاضي محمد ورفيقيه سيفي وصدري.
لقد ركزت هذه المسرحية الموجهة للعائلة والفتيان، والمنعونة باسم قاضي محمد على مشاهد تبرز سماحة هذا الرجل وحبه لشعبه وسعة ثقافته وهو ما لم أفعله في مسرحيتي المسرحية مستمرة أو لنمثل مهاباد الموجهة للكبار. بدءاً بالعنوان ومروراً بالصراعات واختيار الأحداث ومنطق الشخصيات.
نشرت هذه المادة عن التجربة المسرحية الكردية في ملف عن الأدب الكردي( مجلة أوراق العدد 13)
Comments